فصل: تفسير الآية رقم (104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 73‏]‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ‏}‏ إذ رأيت منكم ما رأيت‏.‏ ‏{‏حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي عهداً مؤكداً بذكر الله‏.‏ ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ‏}‏ جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعاً وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير‏:‏ لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به، في تأويل النفي أي لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم‏:‏ أقسمت بالله إلا فعلت، أي ما أطلب إلا فعلك‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ عهدهم‏.‏ ‏{‏قَالَ الله على مَا نَقُولُ‏}‏ من طلب الموثق وإتيانه‏.‏ ‏{‏وَكِيلٌ‏}‏ رقيب مطلع‏.‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ‏}‏ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا، ولعله لم يوصهم بذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين‏.‏ وللنفس آثار منها العين والذي يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في عوذته «اللهم إني أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» ‏{‏وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ‏}‏ مما قضى عليكم بما أشرت به إليكم فإن الحذر لا يمنع القدر‏.‏ ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ‏}‏ يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء ولا ينفعكم ذلك‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون‏}‏ جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم‏.‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم‏}‏ أي من أبواب متفرقة في البلد‏.‏ ‏{‏مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ‏}‏ رأي يعقوب واتباعهم له‏.‏ ‏{‏مّنَ الله مِن شَئ‏}‏ مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه السلام‏.‏ فسُرِقُوا وَأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ‏}‏ استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه، يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا‏.‏ ‏{‏قَضَاهَا‏}‏ أظهرها ووصى بها‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال ‏{‏وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ‏}‏ ولم يغتر بتدبيره‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر‏.‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل روي‏:‏ ‏(‏أنه أضافهم فأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال‏:‏ لو كان أخي يوسف حياً لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته ثم قال‏:‏ لينزل كل اثنين منكم بيتاً وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات عنده وقال له‏:‏ أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، قال‏:‏ من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و‏{‏قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ‏}‏ فلا تحزن افتعال من البؤس‏.‏

‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ في حقنا فيما مضى‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية‏}‏ المشربة‏.‏ ‏{‏فِى رَحْلِ أَخِيهِ‏}‏ قيل كانت مشربة جعلت صاعاً يكال به وقيل‏:‏ كانت تسقى الدواب بها ويكال بها وكانت من فضة‏.‏ وقيل من ذهب وقرئ و«جعل» على حذف جواب فلما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ‏}‏ نادى مناد‏.‏ ‏{‏أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة والسلام أو كان تعبية السقاية والنداء عليها برضا بنيامين‏.‏ وقيل معناه إنكم لسارقون يوسف من أبيه أو أئنكم لسارقون، والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تتردد، فقيل لأصحابها كقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ يا خيل الله اركبي ‏"‏ وقيل جمع عير وأصله فعل كسقف فعل به ما فعل ببيض تجوز به لقافلة الحمير، ثم استعير لكل قافلة‏.‏

‏{‏قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ‏}‏ أي شيء ضاع منكم، والفقد غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، وقرئ ‏{‏تَفْقِدُونَ‏}‏ من أفقدته إذا وجدته فقيداً‏.‏

‏{‏قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك‏}‏ وقرئ «صاع» و«صوع» بالفتح والضم والعين والغين و«صواغ» من الصياغة‏.‏ ‏{‏وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ‏}‏ من الطعام جعلاً له‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ كفيل أؤديه إلى من رده‏.‏ وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل‏.‏

‏{‏قَالُواْ تالله‏}‏ قسم فيه معنى التعجب، التاء بدل من الباء مختصة باسم الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض وَمَا كُنَّا سارقين‏}‏ استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم ومداخلتهم للملك مما يدل على فرط أمانتهم كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم وكعم الدواب لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ فما جزاء السارق أو السرق أو ال ‏{‏صُوَاعَ‏}‏ على حذف المضاف‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ كاذبين‏}‏ في ادعاء البراءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه، هكذا كان شرع يعقوب عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقوله ‏{‏فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ تقرير للحكم وإلزام له، أو خبر ‏{‏مِنْ‏}‏ والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها على أنها شرطية‏.‏ والجملة كما هي خبر ‏{‏جَزَاؤُهُ‏}‏ على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير كأنه قيل‏:‏ جزاؤه من وجد في رحله فهو هو‏.‏ ‏{‏كذلك نَجْزِى الظالمين‏}‏ بالسرقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فبدأ بأوعيتهم‏}‏ فبدأ المؤذن وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر ‏{‏قبل وعاء أخيه‏}‏ بنيامين نفيا للتهمة ‏{‏ثم استخرجها‏}‏ أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث ‏{‏من وعاء أخيه‏}‏ وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الكيد ‏{‏كدنا ليوسف‏}‏ بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك‏}‏ ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أن جعل ذلك الحكم حكم الملك فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه ‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ بالعلم كما رفعنا درجته ‏{‏وفوق كل ذي علم عليم‏}‏ أرفع درجة منه واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِن يَسْرِقْ‏}‏ بنيامين‏.‏ ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ يعنون يوسف‏.‏ قيل ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام وكانت تحضن يوسف وتحبه، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها فشدت المنطقة على وسطه، ثم أظهرت ضياعها فتفحصُ عنها فوجدت محزومة عليه فصارت أحق به في حكمهم‏.‏ وقيل كان لأبي أمه صنم فسرقه وكسره وألقاه في الجيف‏.‏ وقيل كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل‏.‏ وقيل دخل كنيسة وأخذ تمثالاً صغيراً من الذهب‏.‏ ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ‏}‏ أكنها ولم يظهرها لهم، والضمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السرقة إليه وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ فإنه بدل من أسرها‏.‏ والمعنى قال في نفسه أنتم شر مكاناً أي منزلة في السرقة لسرقتكم أخاكم، أو في سوء الصنيع مما كنتم عليه، وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة، وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن‏.‏ ‏{‏والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يا أَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا‏}‏ أي في السن أو القدر، ذكروا له حاله استعطافاً له عليه‏.‏ ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ‏}‏ بدله فإن أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به‏.‏ ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ إلينا فأتمم إحسانك، أو من المتعودين بالإِحسان فلا تغير عاداتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ‏}‏ فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم فلو أخذنا أحدكم مكانه‏.‏ ‏{‏إِنَّا إِذًا لظالمون‏}‏ في مذهبكم هذا، وإن مراده إن الله أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه فلو أخذت غيره كنت ظالماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ‏}‏ يئسوا من يوسف وإجابته إياهم، وزيادة السين والتاء للمبالغة‏.‏ ‏{‏خَلَصُواْ‏}‏ انفردوا واعتزلوا‏.‏ ‏{‏نَجِيّاً‏}‏ متناجين، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنته كما قيل هو صديق، وجمعه أنجيه كندي وأندية‏.‏ ‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏ في السن وهو روبيل، أو في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ عهداً وثيقاً، وأنما جعل حلفهم بالله موثقاً منه لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته‏.‏ ‏{‏وَمِن قَبْلُ‏}‏ ومن قبل هذا‏.‏ ‏{‏مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ‏}‏ قصرتم في شأنه، و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في موضع النصب بالعطف على مفعول تعلموا، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف، أو على اسم ‏{‏أن‏}‏ وخبره في ‏{‏يُوسُفَ‏}‏ أو ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أو الرفع بالابتداء والخبر ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ وفيه نظر، لأن ‏{‏قَبْلُ‏}‏ إذا كان خبراً أو صلة لا يقطع عن الإِضافة حتى لا ينقص وأن تكون موصولة أي‏:‏ ما فرطتموه بمعنى ما قدمتوه في حقه من الجناية ومحله ما تقدم‏.‏ ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض‏}‏ فلن أفارق أرض مصر‏.‏ ‏{‏حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى‏}‏ في الرجوع‏.‏ ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ الله لِى‏}‏ أو يقضي لي بالخروج منها، أو بخلاص أخي منهم أو بالمقاتلة معهم لتخليصه‏.‏ روي‏:‏ أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل‏:‏ أيها الملك والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل، ووقفت شعور جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف عليه السلام لابنه‏:‏ قم إلى جنبه فمسه، وكان بنو يعقوب عليه السلام إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه‏.‏ فقال روبيل من هذا إن في هذا البلد لبزراً من بزر يعقوب‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ‏}‏ على ما شاهدناه من ظاهر الأمر‏.‏ وقرئ ‏{‏سَرَقَ‏}‏ أي نسب إلى السرقة‏.‏ ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا‏}‏ عليه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ بأن رأينا أن الصواع استخرج من وعائه‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ‏}‏ لباطن الحال‏.‏ ‏{‏حافظين‏}‏ فلا ندري أنه سرق أو سرق الصواع في رحله، أو وما كنا للعواقب عالمين فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق، أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا‏}‏ يعنون مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها، والمعنى أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة‏.‏ ‏{‏والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ وأصحاب العير التي توجهنا فيهم وكنا معهم‏.‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ تأكيد في محل القسم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ‏}‏ أي فلما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ‏}‏ أي سولت وسهلت‏.‏ ‏{‏لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا‏}‏ أردتموه فقدرتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته‏.‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل‏.‏ ‏{‏عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا‏}‏ بيوسف وبنيامين وأخيهما الذي توقف بمصر‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العليم‏}‏ بحالي وحالهم‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ في تدبيرهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وتولى عَنْهُمْ‏}‏ وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم‏.‏ ‏{‏وَقَالَ يا أَسَفاً على يُوسُفَ‏}‏ أي يا أسفاً تعالي فهذا أوانك، والأسف أشد الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه والحادث رزؤهما لأن رزأه كان قاعدة المصيبات وكان غضاً آخذاً بمجامع قلبه، ولأنه كان واثقاً بحياتهما دون حياته، وفي الحديث‏:‏ «لم تعط أمة من الأمم» ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏}‏ «عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم» ألا ترى إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ‏{‏يَا أَسَفاً‏}‏‏.‏ ‏{‏وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن‏}‏ لكثرة بكائه من الحزن كأن العبرة محقت سوادهما‏.‏ وقيل ضعف بصره‏.‏ وقيل عمي، وقرئ ‏{‏مِنَ الحزن‏}‏ وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع، ولعل أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال‏:‏ «القلب يجزع والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون» ‏{‏فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، فعيل بمعنى مفعول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ من كظم السقاء إذا شده على ملئه، أو بمعنى فاعل كقوله‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ من كظم الغيظ إذا اجترعه، وأصله كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ‏}‏ أي لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجعاً عليه، فحذف لا كما في قوله‏:‏

فَقُلْتُ يَمينَ اللّه أَبْرَح قَاعِداً *** لأنه لا يلتبس بالإثبات، فإن القسم إذا لم يكن معه علامات الإثبات كان على النفي‏.‏ ‏{‏حتى تَكُونَ حَرَضاً‏}‏ مريضاً مشفياً على الهلاك‏.‏ وقيل الحرض الذي أذابه هم أو مرض، وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع والنعت بالكسر كدنف ودنف‏.‏ وقد قرئ به وبضمتين كجنب‏.‏ ‏{‏أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين‏}‏ من الميتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى‏}‏ همي الذي لا أقدر الصبر عليه من البث بمعنى النشر‏.‏ ‏{‏إِلَى الله‏}‏ لا إلى أحد منكم ومن غيركم، فخلوني وشكايتي‏.‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ الله‏}‏ من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه، أو من الله بنوع من الإِلهام‏.‏ ‏{‏مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ من حياة يوسف‏.‏ قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال هو حي‏.‏ وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخر له إخوته سجداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏يا بَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما والتحسس تطلب الإحساس‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله‏}‏ ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه‏.‏ وقرئ ‏{‏مِن رَّوْحِ الله‏}‏ أي من رحمته التي يحيا بها العباد‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يَيْأََسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ بالله وصفاته فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا العزيز‏}‏ بعدما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية‏.‏ ‏{‏مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر‏}‏ شدة الجوع‏.‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ‏}‏ رديئة أو قليلة ترد وتدفع رغبة عنها، من أزجيته إذا دفعته ومنه تزجية الزمان‏.‏ قيل كانت دراهم زيوفاً وقيل صوفاً وسمناً‏.‏ وقيل الصنوبر والحبة الخضراء‏.‏ وقيل الأقط وسويق المقل‏.‏ ‏{‏فَأَوْفِ لَنَا الكيل‏}‏ فأتمم لنا الكيل‏.‏ ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ برد أخينا أو بالمسامحة وقبول المزجاة، أو بالزيادة على ما يساويها‏.‏ واختلف في أن حرمة الصدقة تعم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو تختص بنبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين‏}‏ أحسن الجزاء والتصدق التفضل مطلقاً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في القصر «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» لكنه اختص عرفاً بما يبتغي به ثواب من الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ أي هل علمتم قبحه فتبتم عنه وفعلهم بأخيه إفراده عن يوسف وإذلاله حتى لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة‏.‏ ‏{‏إِذْ أَنتُمْ جاهلون‏}‏ قبحه فلذلك أقدمتم عليه أو عاقبته، وإنما قال ذلك تنصيحاً لهم وتحريضاً على التوبة، وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريباً‏.‏ وقيل أعطوه كتاب يعقوب في تخليص بنيامين وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه فقال لهم ذلك، وإنما جهلهم لأن فعلهم كان فعل الجهال، أو لأنهم كانوا حينئذ صبياناً شياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَءنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ‏}‏ استفهام تقرير ولذلك حقق بأن ودخول اللام عليه‏.‏ وقرأ ابن كثير على الإِيجاب‏.‏ قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به، وقيل تبسم فعرفوه بثناياه‏.‏ وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها‏.‏ ‏{‏قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى‏}‏ من أبي وأمي ذكره تعريفاً لنفسه به، وتفخيماً لشأنه وإدخالاً له في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ أي بالسلامة والكرامة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ‏}‏ أي يتق الله‏.‏ ‏{‏وَيِصْبِرْ‏}‏ على البليات أو على الطاعات وعن المعاصي‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا‏}‏ اختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنَّا لخاطئين‏}‏ والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ‏}‏ لا تأنيب عليكم تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش للإِزالة كالتجليد، فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه‏.‏ ‏{‏اليوم‏}‏ متعلق بال ‏{‏تَثْرَيبَ‏}‏ أو بالمقدر للجار الواقع خبراً لل ‏{‏لاَ تثريبَ‏}‏ والمعنى لا أثربكم اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام أو بقوله‏:‏ ‏{‏يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏}‏ لأنه صفح عن جريمتهم حينئذ واعترفوا بها‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين‏}‏ فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب، ومن كرم يوسف عليه الصلاة والسلام أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه وقالوا‏:‏ إنك تدعونا بالبكرة والعشي إلى الطعام ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال إن أهل مصر كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون‏:‏ سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت بكم وعظمت في عيونهم حيث علموا أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا‏}‏ القميص الذي كان عليه‏.‏ وقيل القميص المتوارث الذي كان في التعويذ‏.‏ ‏{‏فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا‏}‏ أي يرجع بصيراً أي ذا بصر‏.‏ ‏{‏وَائْتُوني‏}‏ أنتم وأبي‏.‏ ‏{‏بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ بنسائكم وذراريكم ومواليكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ العير‏}‏ من مصر وخرجت من عمرانها‏.‏ ‏{‏قَالَ أَبُوهُمْ‏}‏ لمن حضره‏.‏ ‏{‏إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏ أوجده الله ريح ما عبق بقميصه من ريحه حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخاً‏.‏ ‏{‏لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ‏}‏ تنسبوني إلى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم، ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي‏.‏ وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف تقديره لصدقتموني أو لقلت إنه قريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الحاضرون‏.‏ ‏{‏تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم‏}‏ لفي ذهابك عن الصواب قدماً بالإِفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَن جَاء البشير‏}‏ يهوذا‏.‏ روي‏:‏ أنه قال كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه فأفرحه بحمل هذا إليه‏.‏ ‏{‏أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ‏}‏ طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه السلام أو يعقوب نفسه‏.‏ ‏{‏فارتد بَصِيرًا‏}‏ عاد بصيراً لما انتعش فيه من القوة‏.‏ ‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام، وإنزال الفرح‏.‏ وقيل إني أعلم كلام مبتدأ والمقول ‏{‏تَيْأَسُوا مِّنْ رَّوْحِ اللهِ‏}‏، أو ‏{‏إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ياأَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين‏}‏ ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويسأله المفغرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ اخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة تحرياً لوقت الإِجابة، أو إلى أن يستحل لهم من يوسف أو يعلم أنه عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة‏.‏ ويؤيده ما روي أنه استقبل القبلة قائما إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة وهو إن صح فدليل على نبوتهم وأن ما صدر عنهم كان قبل استنبائهم ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ‏}‏ روي أنه وجه إليه رواحل وأموالاً ليتجهز إليه بمن معه، واستقبله يوسف والملك بأهل مصر وكان أولاده الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلاً وامرأة، وكانوا حين خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى‏.‏ ‏{‏ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ‏}‏ ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏}‏ أو لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام تزوجها بعد أمه والرابة تدعى أماً ‏{‏وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله ءامِنِينَ‏}‏ من القحط وأصناف المكاره، والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف بالأمن والدخول الأول كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا‏}‏ تحية وتكرمة له فإن السجود كان عندهم يجري مجراها‏.‏ وقيل معناه خروا لأجله سجداً لله شكراً‏.‏ وقيل الضمير لله تعالى والواو لأبويه وإخوته والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظاً للاهتمام بتعظيمه لهما‏.‏ ‏{‏وَقَالَ يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏}‏ التى رأيتها أيام الصبا‏.‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا‏}‏ صدقاً‏.‏ ‏{‏وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذَا أَخْرَجَنِى مِنَ السجن‏}‏ ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريباً عليهم‏.‏ ‏{‏وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو‏}‏ من البادية لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى‏}‏ أفسد بيننا وحرش، من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء‏}‏ لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ويتسهل دونها‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العليم‏}‏ بوجود المصالح والتدابير‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة‏.‏ روي‏:‏ أن يوسف طاف بأبيه عليهما الصلاة والسلام في خزائنه فلما أدخله خزانة القراطيس قال‏:‏ يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال‏:‏ أمرني جبريل عليه السلام قال‏:‏ أو ما تسأله قال‏:‏ أنت أبسط مني إليه فاسأله فقال جبريل‏:‏ الله أمرني بذلك‏.‏ لقولك‏:‏ ‏{‏وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب‏}‏ قال فهلا خفتني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك‏}‏ بعض الملك وهو ملك مصر‏.‏ ‏{‏وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأحاديث‏}‏ الكتب أو الرؤيا، ومن أيضاً للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل‏.‏ ‏{‏فَاطِرَ السموات والأرض‏}‏ مبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه‏.‏ ‏{‏أَنتَ وَلِىِّ‏}‏ ناصري ومتولي أمري‏.‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏ أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما‏.‏ ‏{‏تَوَفَّنِى مُسْلِمًا‏}‏ اقبضني‏.‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِى بالصالحين‏}‏ من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة‏.‏ روي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه، فذهب به ودفنه ثمة ثم عاد وعاش بعده ثلاثاً وعشرين سنة، ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء، ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعاً فيه، ثم نقله موسى عليه الصلاة والسلام إلى مدفن آبائه وكان عمره مائة وعشرين سنة، وقد ولد له من راعيل افراثيم وميشا وهو جد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه الصلاة والسلام، والخطاب فيه للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ‏.‏ ‏{‏مِنْ أَنبَاء الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ خبران له‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ‏}‏ كالدليل عليهما والمعنى‏:‏ أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً سمع ذلك فتعلمته منه، وإنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير هذه القصة كقوله‏:‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ‏}‏ على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم‏.‏ ‏{‏بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ لعنادهم وتصميمهم على الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على الإنباء أو القرآن‏.‏ ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ من جعل كما يفعله حملة الأخبار‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ عظة من الله تعالى‏.‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ عامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ‏}‏ وكم من آية‏.‏ والمعنى وكأي عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده‏.‏ ‏{‏فِي السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا‏}‏ على الآيات ويشاهدونها‏.‏ ‏{‏وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها‏.‏ وقرئ ‏{‏والأرض‏}‏ بالرفع على أنه مبتدأ خبره ‏{‏يَمُرُّونَ‏}‏، فيكون لها الضمير في ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ وبالنصب على ويطؤون الأرض‏.‏ وقرئ و«الأرض يمشون عليها» أي يترددون فيها فيرون آثار الأمم الهالكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله‏}‏ في إقرارهم بوجوده وخالقيته‏.‏ ‏{‏إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ‏}‏ بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أرباباً‏.‏ ونسبة التبني إليه تعالى، أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك‏.‏ وقيل الآية في مشركي مكة‏.‏ وقيل في المنافقين‏.‏ وقيل في أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله‏}‏ عقوبة تغشاهم وتشملهم‏.‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً‏}‏ فجأة من غير سابقة علامة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بإتيانها غير مستعدين لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هذه سَبِيلِى‏}‏ يعني الدعوة إلى التوحيد والإِعداد للمعاد ولذلك فسر السبيل بقوله‏:‏ ‏{‏ادعوا إِلَى الله‏}‏ وقيل هو حال من الياء‏.‏ ‏{‏على بَصِيرَةٍ‏}‏ بيان وحجة واضحة غير عمياء‏.‏ ‏{‏أَنَاْ‏}‏ تأكيد للمستتر في ‏{‏أَدْعُو‏}‏ أو ‏{‏على بَصِيرَةٍ‏}‏ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره ‏{‏على بَصِيرَةٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمَنِ اتبعنى‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏{‏وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ وأنزهه تنزيهاً من الشركاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً‏}‏ رد لقولهم ‏{‏لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة‏}‏ وقيل معناه نفي استنباء النساء ‏{‏يُوحِي إِلَيْهِمُ‏}‏ كما يوحي إليك ويميزون بذلك عن غيرهم‏.‏ وقرأ حفص «نُوحِي» في كل القرآن ووافقه حمزة والكسائي في سورة «الأنبياء»‏.‏ ‏{‏مّنْ أَهْلِ القرى‏}‏ لأن أهلها أعلم وأحلم من أهل البدو‏.‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك، أومن المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا عن حبها‏.‏ ‏{‏وَلَدَارُ الآخرة‏}‏ ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا‏}‏ الشرك والمعاصي‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ يستعملون عقولهم ليعرفوا أنها خير‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالتاء حملاً على قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هذه سَبِيلِى‏}‏ أي قل لهم أفلا تعقلون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا استيئس الرسل‏}‏ غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير وازع‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ أي كذبتم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو كذبهم القوم بوعد الإِيمان‏.‏ وقيل الضمير للمرسل إليهم أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد‏.‏ وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل أي وظنوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم‏.‏ وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة‏.‏ هذا وأن المراد به المبالغة في التراخي والإِمهال على سبيل التمثيل‏.‏ وقرأ غير الكوفيين بالتشديد أي وظن الرسل أن القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم‏.‏ وقرئ ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ بالتخفيف وبناء الفاعل أي وظنوا أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به عند قومهم لما تراخى عنهم ولم يروا له أثراً‏.‏ ‏{‏جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاء‏}‏ النبي والمؤمنين وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم لايشاركهم فيه غيرهم وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب على لفظ الماضي المبني للمفعول‏.‏ وقرئ فنجا‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين‏}‏ إذا نزل بهم وفيه بيانه للمشيئين ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ‏}‏ في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته‏.‏ ‏{‏عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب‏}‏ لذوي العقول المبرأة من شوائب الإِلف والركون إلى الحس‏.‏ ‏{‏مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى‏}‏ ما كان القرآن حديثاً يفترى‏.‏ ‏{‏ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من الكتب الإِلهية‏.‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْء‏}‏ يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط‏.‏ ‏{‏وهدى‏}‏ من الضلال‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ ينال بها خير الدارين‏.‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يصدقونه‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً»‏.‏

سورة الرعد

مدنية وقيل مكية إلا قوله‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏ وهي ثلاث وأربعون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏المر‏}‏ قيل معناه أنا الله أعلم وأرى‏.‏ ‏{‏تِلْكَ آيات الكتاب‏}‏ يعني بالكتاب السورة و‏{‏تِلْكَ‏}‏ إشارة إلى آياتها أي‏:‏ تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو القرآن‏.‏ ‏{‏والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ‏}‏ هو القرآن كله ومحله الجر بالعطف على ‏{‏الكتاب‏}‏ عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى، أو الرفع بالابتداء وخبره ‏{‏الحق‏}‏ والجملة كالحجة على الجملة الأولى، وتعريف الخبر وإن دل على اختصاص المنزل بكونه حقاً فهو أعم من المنزل صريحاً أو ضمناً، كالمثبت بالقياس وغيره مما نطق المنزل بحسن اتباعه‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لإِخلالهم بالنظر والتأمل فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى رَفَعَ السموات‏}‏ مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون الموصول صفة والخبر ‏{‏يُدَبّرُ الأمر‏}‏‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عَمَدٍ‏}‏ أساطين جمع عماد كإهاب وأهب، أو عمود كأديم وأدم وقرئ ‏{‏عَمَدٍ‏}‏ كرسل‏.‏ ‏{‏تَرَوْنَهَا‏}‏ صفة ل ‏{‏عَمَدٍ‏}‏ أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك، وهو دليل على وجود الصانع الحكيم فإن ارتفاعها على سائر الأجسام السماوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات‏.‏ ‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ بالحفظ والتدبير‏.‏ ‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ ذللهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها‏.‏ ‏{‏كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ لمدة معينة يتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الأمر‏}‏ أمر ملكوته من الايجاد والإِعدام والإِحياء والإِماتة وغير ذلك‏.‏ ‏{‏يُفَصِّلُ الآيات‏}‏ ينزلها ويبينها مفصلة أو يحدث الدلائل واحداً بعد واحد‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏ لكي تتفكروا فيها وتتحققوا كمال قدرته فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإِعادة والجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض‏}‏ بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت، جمع راسيه والتاء للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة‏.‏ ‏{‏وأنهارا‏}‏ ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلاً واحداً من حيث إن الجبال أسباب لتولدها‏.‏ ‏{‏وَمِن كُلِّ الثمرات‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ أي وجعل فيها من جمع أنواع الثمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض والصغير والكبير‏.‏ ‏{‏يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ‏}‏ يلبسه مكانه فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر «يُغَّشِي» بالتشديد‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فيها فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيأ أسبابها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات‏}‏ بعضها طيبة وبعضها سبخة، وبعضها رخوة وبعضها صلبة، وبعضها تصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس‏.‏ ولولا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم تكن كذلك، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث أنها متضامة متشاركة في النسب والأوضاع‏.‏ ‏{‏وجنات مّنْ أعناب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ‏}‏ وبساتين فيها أنواع الأشجار والزروع، وتوحيد الزرع لأنه مصدر في أصله‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص ‏{‏وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ‏}‏ بالرفع عطفاً على ‏{‏وجنات‏}‏‏.‏ ‏{‏صنوان‏}‏ نخلات أصلها واحد‏.‏ ‏{‏وَغَيْرُ صنوان‏}‏ متفرقات مختلفات الأصول‏.‏ وقرأ حفص بالضم وهو لغة بني تميم ك ‏{‏قنوان‏}‏ في جمع قنو‏.‏ ‏{‏تُسْقَى بِمَاء واحد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل‏}‏ في التمر شكلاً وقدراً ورائحة وطعماً، وذلك أيضاً مما يدل على الصانع الحكيم، فإن اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب «يسقى» بالتذكير على تأويل ما ذكر، وحمزة والكسائي يفضل بالياء ليطابق قوله ‏{‏يُدَبّرُ الأمر‏}‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ يستعملون عقولهم بالتفكر ‏{‏وَإِن تَعْجَبْ‏}‏ يا محمد من إنكارهم البعث‏.‏ ‏{‏فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت الإِعادة أيسر شيء عليه، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة على إمكان الإِعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته‏.‏ ‏{‏أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ بدل من قولهم أو مفعول له، والعامل في إذا محذوف دل عليه‏:‏ ‏{‏أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ لأنهم كفروا بقدرته على البعث‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم‏}‏ مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لا ينفكون عنها، وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة‏}‏ بالعقوبة قبل العافية، وذلك لأنهم استعجلوا ما هددوا به من عذاب الدنيا استهزاء‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات‏}‏ عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا بها ولم يجوزوا حلول مثلها عليهم، والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصَدُقَة والصُدْقَة، العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه، ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته منه‏.‏ وقرئ ‏{‏المثلات‏}‏ بالتخفيف و‏{‏المثلات‏}‏ بإتباع الفاء العين و‏{‏المثلات‏}‏ بالتخفيف بعد الاتباع، و‏{‏المثلات‏}‏ بفتح الثاء على أنها جمع مثلة كركبة وركبات‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ‏}‏ مع ظلمهم أنفسهم، ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإن التائب ليس على ظلمه، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر، أو أول المغفرة بالستر والإِمهال‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب‏}‏ للكفار أو لمن شاء، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه واقتراحاً لنحو ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ‏}‏ مرسل للإنذار كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإِتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك‏.‏ ‏{‏وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى الحق ويدعوهم إلى الصواب، أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته بما ينزل عليك من الآيات‏.‏ ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره، تنبيهاً على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال‏:‏

‏{‏الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى‏}‏ أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة‏.‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ وما تنقصه وما تزداده في الجنة والمدة والعدد، وأقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة‏.‏ روي أن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له‏.‏ وقيل نهاية ما عرف به أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه، وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطوناً في كل بطن خمسة‏.‏ وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده، وغاض جاء متعدياً ولازماً وكذا ازداد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وازدادوا تِسْعًا‏}‏ فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية‏.‏ وإسنادهما إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أو لما فيها‏.‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏ بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين، وهيأ له أسباباً مسوفة إليه تقتضي ذلك‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏هَادٍ‏}‏ ‏{‏ووالٍ‏}‏ و‏{‏وواق‏}‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله بَاقٍ‏}‏ بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير، والباقون يصلون ويقفون بغير ياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏عالم الغيب‏}‏ الغائب عن الحس‏.‏ ‏{‏والشهادة‏}‏ الحاضر له‏.‏ ‏{‏الكبير‏}‏ العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء‏.‏ ‏{‏المتعال‏}‏ المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏سَوَاءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول‏}‏ في نفسه‏.‏ ‏{‏وَمَنْ جَهَرَ بِهِ‏}‏ لغيره‏.‏ ‏{‏وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّليْلِ‏}‏ طالب للخفاء في مختبأ بالليل‏.‏ ‏{‏وَسَارِبٌ‏}‏ بارز‏.‏ ‏{‏بالنهار‏}‏ يراه كل أحد من سرب سروباً إذا برز، وهو عطف على من أو مستخف على أَن من في معنى الإثنين كقوله‏:‏

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان *** كأنه قال سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار، والآية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه وشموله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُ‏}‏ لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب‏.‏ ‏{‏معقبات‏}‏ ملائكة تعتقب في حفظه، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضاً، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها، أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات‏.‏ وقرئ «مَعَاقِيبُ» جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين‏.‏ ‏{‏مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر‏.‏ ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى‏.‏ وقد قرئ به وقيل من بمعنى الباء‏.‏ وقيل من أمر الله صفة ثانية ل ‏{‏معقبات‏}‏‏.‏ وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ‏}‏ من العافية والنعمة‏.‏ ‏{‏حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ فلا راد له فالعامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ ما دل عليه الجواب‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِّنْ دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء، وفيه دليل على أن خلاف مراد الله تعالى محال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا‏}‏ من أذاه‏.‏ ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ في الغيث وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف، أي إرادة خوف وطمع أو التأويل بالإِخافة والإِطماع، أو الحال من ‏{‏البرق‏}‏ أو المخاطبين على إضمار ذو، أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة‏.‏ وقيل يخاف المطر من يضره ويطمع فيه من ينفعه‏.‏ ‏{‏وَيُنْشِئ السحاب‏}‏ الغيم المنسحب في الهواء‏.‏ ‏{‏الثقال‏}‏ وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرعد‏}‏ ويسبح سامعوه‏.‏ ‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبساً بالدلالة على فضله ونزول رحمته‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال‏:‏ «ملك موكل بالسحاب معه مخازين من نار يسوق بها السحاب» ‏{‏والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏ من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل ‏{‏الرعد‏}‏‏.‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ‏}‏ فيهلكه‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يجادلون فِى الله‏}‏ حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، ورمى عامراً بغدة فمات في بيت سلولية، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية، فنزلت‏.‏ ‏{‏وَهُوَ شَدِيدُ المحال‏}‏ المماحلة المكايدة لأعدائه، من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة، ولعل أصله المحل بمعنى القحط‏.‏ وقيل فعال من المحل بمعنى القوة‏.‏ وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال، ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلاً في القوة والقدرة كقولهم‏:‏ فساعد الله أشد وموساه أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الحق‏}‏ الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلى عبادته دون غيره، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه، ويؤيده ما بعده و‏{‏الحق‏}‏ على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال ‏{‏دَعْوَةُ‏}‏ لما بينهما من الملابسة، أو على تأويل دعوة المدعو الحق‏.‏ وقيل ‏{‏الحق‏}‏ هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم أو دلالة على أنه على الحق، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، أو بيان ضلالهم وفساد رأيهم‏.‏ ‏{‏والذين يَدْعُونَ‏}‏ أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون، فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة‏.‏ ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ عليه‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ‏}‏ من الطلبات‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ‏}‏ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه‏.‏ ‏{‏إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ‏}‏ يطلب منه أن يبلغه‏.‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ‏}‏ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإِتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم‏.‏ وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه‏.‏ وقرئ «تدعون» بالتاء وباسط بالتنوين‏.‏ ‏{‏وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ في ضياع وخسار وباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السموات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ يحتمل أن يكون السجود على حقيقته فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين، طوعاً حالتي الشدة والرخاء والكفرة كرهاً حال الشدة والضرورة‏.‏ ‏{‏وظلالهم‏}‏ بالعرض وأن يراد به انقيادهم لإِحداث ما أراده منهم شاؤوا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص وانتصاب ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ بالحال أو العلة وقوله‏:‏ ‏{‏بالغدو والآصال‏}‏ ظرف ل ‏{‏يَسْجُدُ‏}‏ والمراد بهما الدوام أو حال من الظلال، وتخصيص الوقتين لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما، والغدو جمع غداة كقنى جمع قناة، و‏{‏الآصال‏}‏ جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب‏.‏ وقيل الغدو مصدر ويؤيده أنه قد قرئ و‏{‏الإِيصال‏}‏ وهو الدخول في الأصيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض‏}‏ خالقهما ومتولي أمرهما‏.‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ أجب عنهم بذلك إذ لا جواب لهم سواه، ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه أو لقنهم الجواب به‏.‏ ‏{‏قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ‏}‏ ثم ألزمهم بذلك لأن اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل‏.‏ ‏{‏أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّاً‏}‏ لا يقدرون على أن يجلبوا إليها نفعاً أو يدفعوا عنها ضراً فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه، وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم‏.‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ المشرك الجاهل بحقيقة العبادة والموجب لها والموحد العالم بذلك‏.‏ وقيل المعبود الغافل عنكم والمعبود المطلع على أحوالكم‏.‏ ‏{‏أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور‏}‏ الشرك والتوحيد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالياء‏.‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ‏}‏ بل أجعلوا والهمزة للإنكار وقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ‏}‏ صفة لشركاء داخلة في حكم الإِنكار‏.‏ ‏{‏فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ‏}‏ خلق الله وخلقهم، والمعنى أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلاً عما يقدر عليه الخالق‏.‏ ‏{‏قُلِ الله خالق كُلِّ شَئ‏}‏ أي لا خالق غيره فيشاركه في العبادة، جعل الخلق موجب العبادة ولازم استحقاقها ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الواحد‏}‏ المتوحد بالألوهية‏.‏ ‏{‏القهار‏}‏ الغالب على كل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً‏}‏ من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها‏.‏ ‏{‏فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ‏}‏ أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع‏.‏ ‏{‏بِقَدَرِهَا‏}‏ بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر‏.‏ ‏{‏فاحتمل السيل زَبَدًا‏}‏ رفعه والزبد وضر الغليان‏.‏ ‏{‏رَّابِيًا‏}‏ عالياً‏.‏ ‏{‏وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار‏}‏ يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهاراً لكبريائه‏.‏ ‏{‏ابتغاء حِلْيَةٍ‏}‏ أي طلب حلى‏.‏ ‏{‏أَوْ متاع‏}‏ كالأواني وآلات الحرب والحرث، والمقصود من ذلك بيان منافعها‏.‏ ‏{‏زَبَدٌ مّثْلُهُ‏}‏ أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه، و‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعمل به‏.‏ ‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل‏}‏ مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً‏}‏ يجفأ به أي يرمي به السبيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالاً والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس‏}‏ كالماء وخلاصة الفلز‏.‏ ‏{‏فَيَمْكُثُ فِى الأرض‏}‏ ينتفع به أهلها‏.‏ ‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال‏}‏ لايضاح المشتبهات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا‏}‏ للمؤمنين الذين استجابوا‏.‏ ‏{‏لِرَبِّهِمُ الحسنى‏}‏ الإستجابة الحسنى‏.‏ ‏{‏والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ‏}‏ وهم الكفرة واللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما‏.‏ وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي المثوبة أو الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ‏}‏ وهو على الأول كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحساب‏}‏ وهو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ‏}‏ مرجعهم‏.‏ ‏{‏جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد‏}‏ المستقر والمخصوص بالذم محذوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق‏}‏ فيستجيب‏.‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ أعمى‏}‏ عمى القلب لا يستبصر فيستجيب، والهمزة لإِنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعدما ضرب من المثل‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب‏}‏ ذوو العقول المبرأة عن مشايعة الألف ومعارضة الوهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله‏}‏ ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق‏}‏ ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد وهو تعميم بعد تخصيص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس‏.‏ ‏{‏وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ وعيده عموماً‏.‏ ‏{‏وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ‏}‏ خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُواْ‏}‏ على ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى‏.‏ ‏{‏ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ‏}‏ طلباً لرضاه لا لجزاء وسمعة ونحوهما‏.‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ المفروضة‏.‏ ‏{‏وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ‏}‏ بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه‏.‏ ‏{‏سِرّا‏}‏ لمن لم يعرف بالمال‏.‏ ‏{‏وَعَلاَنِيَةً‏}‏ لمن عرف به‏.‏ ‏{‏وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة‏}‏ ويدفعونها بها فيجازون الإِساءة بالإِحسان، أو يتبعون السيئة الحسنة فتمحوها‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار‏}‏ عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أهلها وهي الجنة، والجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل من ‏{‏عقبى الدار‏}‏ أو مبتدأ خبر‏.‏ ‏{‏يَدْخُلُونَهَا‏}‏ والعدن الإِقامة أي جنات يقيمون فيها، وقيل هو بطنان الجنة‏.‏ ‏{‏وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ‏}‏ عطف على المرفوع في يدخلون، وإنما ساغ للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعاً لهم وتعظيماً لشأنهم، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم، وفي التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع‏.‏ ‏{‏والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ‏}‏ من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ بشارة بدوام السلامة‏.‏ ‏{‏بِمَا صَبَرْتُمْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم لا ب ‏{‏سلام‏}‏، فإن الخبر فاصل والباء للسببية أو للبدلية‏.‏ ‏{‏فَنِعْمَ عقبى الدار‏}‏ وقرئ ‏{‏فَنِعْمَ‏}‏ بفتح النون والأصل نعم فسكن العين بنقل كسرتها إلى الفاء وبغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله‏}‏ يعني مقابلي الأولين‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ميثاقه‏}‏ من بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول‏.‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض‏}‏ بالظلم وتهييج الفتن‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سُوءُ الدار‏}‏ عذاب جهنم أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة ‏{‏عقبى الدار‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ‏}‏ يوسعه ويضيقه‏.‏ ‏{‏وَفَرِحُواْ‏}‏ أي أهل مكة‏.‏ ‏{‏بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ بما بسط لهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا فِى الآخرة‏}‏ أي في جنب الآخرة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ متاع‏}‏ إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي، والمعنى أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ‏}‏ باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ‏}‏ أقبل إلى الحق ورجَع عن العناد، وهو جواب يجري مجرى التعجب من قولهم كأنه قال قل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من أناب بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءَامَنُواْ‏}‏ بدل ‏{‏من‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف‏.‏ ‏{‏وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله‏}‏ أنساً به واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر دلائله الدالة على وجوده ووحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات‏.‏ ‏{‏أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب‏}‏ تسكن إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏طوبى لَهُمْ‏}‏ وهو فعلى من الطيب قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى، ويجوز فيه الرفع والنصب ولذلك قرئ‏.‏ ‏{‏وَحُسْنُ مَئَابٍ‏}‏ بالنصب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 36‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏ وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك يعني إرسال الرسل قبلك‏.‏ ‏{‏أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا‏}‏ تقدمتها‏.‏ ‏{‏أُمَمٌ‏}‏ أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم‏.‏ ‏{‏لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن‏}‏ وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا نعمه وخصوصاً ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم، وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية عليهم‏.‏ وقيل نزلت في مشركي أهل مكة حين قيل لهم ‏{‏اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن‏}‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبّى‏}‏ أي الرحمن خالقي ومتولي أمري‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ لا مستحق للعبادة سواه‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ في نصرتي عليكم‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ مرجعي ومرجعكم‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال‏}‏ شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن، أو المبالغة في عناد الكفرة وتصميمهم أي‏:‏ ولو أن كتاباً زعزعت به الجبال عن مقارها‏.‏ ‏{‏أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض‏}‏ تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً‏.‏ ‏{‏أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى‏}‏ فتسمع فتقرؤه، أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإِعجاز والنهاية في التذكير والإِنذار، أو لما آمنوا به كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة‏}‏ الآية‏.‏ وقيل إن قريشاً قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع، أو سخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام، أو ابعث لنا به قصي بن كلاب وغيره من آبائنا ليكلمونا فيك، فنزلت‏.‏ وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير‏.‏ وقيل الجواب مقدم وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن‏}‏ وما بينهما اعتراض وتذكير ‏{‏كلام‏}‏ خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي‏.‏ ‏{‏بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا‏}‏ بل لله القدرة على كل شيءٍ وهو إضراب عما تضمنته ‏{‏لَوْ‏}‏ من معنى النفي أي‏:‏ بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم، وذهب أكثرهم إلى أن معناه أفلم يعلم لما روي أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين قرؤوا «أفلم يتبين»، وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوماً ولذلك علقه بقوله‏:‏ ‏{‏أَن لَّوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا‏}‏ فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييأس الذين آمنوا عن إيمانهم علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً أو ‏{‏بآمنوا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ‏}‏ من الكفر وسوء الأعمال‏.‏ ‏{‏قَارِعَةٌ‏}‏ داهية تقرعهم وتقلقهم‏.‏ ‏{‏أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ‏}‏ ليفزعون منها ويتطاير إليهم شررها‏.‏ وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يزال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم، وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه حل بجيشه قريباً من دارهم عام الحديبية‏.‏ ‏{‏حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله‏}‏ الموت أو القيامة أو فتح مكة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد‏}‏ لامتناع الكذب في كلامه‏.‏

‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه، والإملاء أن يترك ملاوة من الزمان في دعة وأمن‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ أي عقابي إياهم‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ‏}‏ رقيب عليها ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده شيء من جزائهم، والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك‏.‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ‏}‏ استئناف أو عطف على ‏{‏كَسَبَتْ‏}‏ إن جعلت «ما» مصدرية، أو لم يوحدوه وجعلوا عطف عليه ويكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على أنه المستحق للعبادة وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ تنبيه على أن هؤلاء الشركاء لا يستحقونها، والمعنى صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة‏.‏ ‏{‏أَمْ تُنَبِّئُونَهُ‏}‏ بل أتنبئونه‏.‏ وقرئ «تنبئونه» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض‏}‏ بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم، أو بصفات لهم يستحقونها لأجلها لا يعلمها وهو العالم بكل شيء‏.‏ ‏{‏أَم بظاهر مِّنَ القول‏}‏ أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار معنى كتسمية الزنجي كافوراً وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإِعجاز‏.‏ ‏{‏بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ‏}‏ تمويههم فتخيلوا أباطيل ثم خالوها حقاً، أو كيدهم للإسلام بشركهم‏.‏ ‏{‏وَصُدُّواْ عَنِ السبيل‏}‏ سبيل الحق، وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏وَصَدُّواْ‏}‏ بالفتح أي وصدوا الناس عن الإِيمان، وقرئ بالكسر «وَصَدُ» بالتنوين‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ يخذله‏.‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يوفقه للهدى‏.‏

‏{‏لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا‏}‏ بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب‏.‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ‏}‏ لشدته ودوامه‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُم مِّنَ الله‏}‏ من عذابه أو من رحمته‏.‏ ‏{‏مِن وَاقٍ‏}‏ حافظ‏.‏

‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون‏}‏ صفتها التي هي مثل في الغرابة، وهو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقيل خبره‏.‏

‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ على طريقة قولك صفة زيد أسمر، أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، أو على زيادة المثل وهو على قول سيبويه حال من العائد أو المحذوف أو من الصلة‏.‏ ‏{‏أُكُلُهَا دَائِمٌ‏}‏ لا ينقطع ثمرها‏.‏ ‏{‏وِظِلُّهَا‏}‏ أي وظلها كذلك لا ينسخ في الدنيا بالشمس ‏{‏تِلْكَ‏}‏ أي الجنة الموصوفة‏.‏ ‏{‏عقبى الذين اتقوا‏}‏ مآلهم ومنتهى أمرهم‏.‏ ‏{‏وَّعُقْبَى الكافرين النار‏}‏ لا غير، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين‏.‏

‏{‏والذين اتيناهم الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني المسلمين من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة، أو عامتهم فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الأحزاب‏}‏ يعني كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما‏.‏ ‏{‏مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرفوه منها‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ‏}‏ جواب المنكرين أي قل لهم إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وأوحده، وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره، وأما ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإِلهية في جزئيات الأحكام‏.‏ وقرئ ‏{‏وَلاَ أُشْرِكُ‏}‏ بالرفع على الاستئناف‏.‏ ‏{‏إِلَيْهِ ادعوا‏}‏ لا إلى غيره‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ مَآبِ‏}‏ وإليه مرجعي للجزاء لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء، وأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها‏.‏ ‏{‏أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا‏}‏ يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة‏.‏ ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ مترجماً بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه وانتصابه على الحال‏.‏ ‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم‏}‏ التي يدعونك إليها، كتقرير دينهم والصلاة إلى قبلتهم بعدما حولت عنها‏.‏ ‏{‏بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم‏}‏ بنسخ ذلك‏.‏ ‏{‏مَالَكَ مِنَ الله مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ‏}‏ ينصرك ويمنع العقاب عنك وهو حسم لأطماعهم وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ‏}‏ بشراً مثلك‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً‏}‏ نساء وأولاداً كما هي لك‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ‏}‏ وما يصح له ولم يكن في وسعه‏.‏ ‏{‏أَن يَأْتِىَ بِآيَةٍ‏}‏ تقترح عليه وحكم يلتمس منه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ فإنه المليء بذلك‏.‏ ‏{‏لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ لكل وقت وأمد حكم يكتب على العباد على ما يقتضيه استصلاحهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ‏}‏ ينسخ ما يستصوب نسخه‏.‏ ‏{‏وَيُثْبِتُ‏}‏ ما تقتضيه حكمته‏.‏ وقيل يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها‏.‏ وقيل يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتاً أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه‏.‏ وقيل يمحو قرناً ويثبت آخرين‏.‏ وقيل يمحو الفاسدات الكائنات‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏وَيُثَّبتُ‏}‏ بالتشديد‏.‏ ‏{‏وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب‏}‏ أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ وكيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم أو توفيناك قبله‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ‏}‏ لا غير‏.‏ ‏{‏وَعَلَيْنَا الحساب‏}‏ للمجازاة لا عليك فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم فإنا فاعلون له وهذا طلائعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض‏}‏ أرض الكفرة‏.‏ ‏{‏نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ بما نفتحه على المسلمين منها‏.‏ ‏{‏والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ‏}‏ لا راد له وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإِبطال، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء، والمعنى أنه حكم للإِسلام بالاقبال وعلى الكفر بالإِدبار وذلك كائن لا يمكن تغييره، ومحل ‏{‏لا‏}‏ مع المنفي النصب على الحال أي يحكم نافذاً حكمه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ سَرِيعُ الحساب‏}‏ فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والاجلاء في الدنيا‏.‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ بأنبيائهم والمؤمنين به منهم‏.‏ ‏{‏فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا‏}‏ إذ لا يؤبه بمكر دون مكره فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره‏.‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ فيعد جزاءها‏.‏ ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار‏}‏ من الحزبين حيثما يأتيهم العذاب المعد لهم وهم في غفلة منه، وهذا كالتفسير لمكر الله تعالى بهم، واللام تدل على أن المراد بالعقبى العاقبة المحمودة‏.‏ مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكافر على إرادة الجنس، وقرئ «الكافرون» و«الذين كفروا» و«الكفر» أي أهله وسيعلم من أعلمه إذا أخبره‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً‏}‏ قيل المراد بهم رؤساء اليهود‏.‏ ‏{‏قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز، أو علم التوراة وهو ابن سلام وأضرابه، أو علم اللوح المحفوظ وهو الله تعالى، أي كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيداً بيننا فيخزي الكاذب منا، ويؤيده قراءة من قرأ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ بالكسر و‏{‏عِلْمِ الكتاب‏}‏ وعلى الأول مرتفع بالظرف فإنه معتمد على الموصول، ويجوز أن يكون مبتدأ والظرف خبره وهو متعين على الثاني‏.‏ وقرئ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ على الحرف والبناء للمفعول‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة من الموفين بعهد الله ‏"‏‏.‏